يسمى في الجاهلية الأمين قبل أن يوحى إليه
حديث بنيان الكعبة
حدثنا أحمد بن عبد الجبار:
نا يونس بن بكير عن ابن اسحق قال: فأقامت قريش في كل قبيلة منها أشراف، فليس بينها
اختلاف ولا نائرة.
ثم إن قريشاً أجمعوا على بنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك
فيهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعا وتسقيفها وذلك أن نفراً
من قريش سرقوا كنز الكعبة، وكان يكون في بئر جوف الكعبة. وكان الذي وجد عنده الكنز
دويل - أو دويد، شك أبو عمر - مولى لنبي مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده من
بينهم، وكان ممن اتهم في ذلك الحارث بن عامر بن نوفل، وكان أخا الحارث بن عامر بن
نوفل بن عبد مناف لأمه أبو وهب بن عبد المطلب، فهو الذي تزعم قريش أنهم وضعوا كنز
الكعبة حين أخذوه عند وديل - أو دويد - فلما أتتهم قريش دولهم على دويل - أو دويد
- فقطعوه، ويقال: إنهم وضعوه عنده، وذكروا أن قريشاً حين استيقنوا بأن ذلك كان عند
الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، فخرجوا به إلى كاهنة من كهان العرب، فسجعت
عليه من كهانتها بأن لا يدخل مكة عشر سنين بما استحل من حرمة العبة، فزعموا أنهم
أخرجوه من مكة، فكان فيما حولها عشر سنين.
وكان البحر قد رمى بسفينة
إلى جدة لرجل من الروم فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوه لسقفها، وكان بمكة رجل قبطي
نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم في بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي
كان يطرح فيها مما يهدي لها كل يوم، فتشرق على جادر الكعبة، وكانت مما يهابون،
وذلك أنهم زعموا قلما كان يتقرب من بئر الكعبة أحد إلا احزألت وكشت، وفتحت فاها
فكانوا يهابونها، فبينما هي يوماً تشرق على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله
عز وجل عليها طائراً لا يدرون ما هو فاختطفها من متشرقها، فذهب بها، فقالت قريش:
إنا نرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا الخشب،
وقد ذهب الله تعالى بالحية، وذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة، ورسول الله صلى الله
عليه وسلم إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة.
فلما أجمعوا أمرهم على هدمها
وبنائها قام أبو وهب عامر بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم 23 فتناول من الكعبة
حجراً، فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه - فيما يزعمون - فقال: يا معشر قريش لا
تدخلن في بنيانها من كسبكم إلا طيبا ولا تدخلن فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا
وظلمة من أحد من الناس، وينحلون هذا الكلام الوليد بم المغيرة.
نا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيع أنه حدث عن عبد الله بن صفوان بن أمية أنه
رأى ابناً لجعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد عمران بن مخزوم يطوف
بالبيت فسأل عنه، فقيل هذا ابن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فقال عبد الله بن صفوان:
إن جده يعني أبا وهب هو الذي أخذ من الكعبة حجراً حين أرادت قريش هدمها فوثب من
يده حتى رجع إلى موضعه، فقال عند ذلك: يا معشر قريش لا تدخلوا فيها من كسبكم إلا
طيباً، لا تدخلوا مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس، وأبو وهب خال
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شريفاً، وله يقول شاعر من العرب:
لو بأبي وهب أنخت ميتي ...
لرحت وراحت رحلها غير خائب
وأبيض من فرعي لؤي بن غالب ...
إذا حصلت أنسابه للذوائب
أبي لأخذ الضيم يرتاح للندى ...
توسط جداه فروع الأطايب
عظيم رماد القدر يملا جفانه ...
من الخبر يعلوهن مثل السبائب
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: ثم تجزأت قريش الكعبة، فكان شق الباب لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش
الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف، وبني زهرة، وكان مما بين الركنين الأسود
والركن اليماني لبني مخزوم وتيم وقبائل من قريش ضموا إليهم، وكان ظاهرها لسهم
وجمع، وكان شق الحجر، وهو الحطيم، لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن عبد العزى
بن قصي، وبني عدي بن كعب، ثم إن الناس هابوا هدمها، وفرقوا منه، فقال الوليد بن
المغيرة: أنا أبؤوكم في هدمها، فأخذ المعول، فقام عليها، ثم قال: اللهم لا تردع،
اللهم إنا لا نريد إلا الخير، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة
وقالوا: ننظر ماذا يصيبه، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم
يصبه شيء فقد رضي الله عز وجل ما صنعناه، فأصبح غادياً يهدم وهدم الناس معه فلما
انتهى الهدم إلى أس الكعبة اتبعوه حتى انتهوا إلى 24 حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها
بعضاً.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: حدثت أن رجالاً من قريش ممن كان يهدمها قالوا أدخل رجل بين حجرين منها
العثلة ليقلع إحدهما، فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها، فهابوا عند ذلك تحريك ذلك
الأس.
حدثنا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عباد قال: حدثت أنهم
وجدوا في أس الكعبة أو في بعضها شيئاً من صفر مثل بيض النعام مكتوب في احدهما: هذا
بيت الله عز وجل الحرام رزق أهله من كذا، لا يحله أول من أهله، وفي الأخرى: براءة
لبني فلان حي من العرب، من حجة لله حجوها.
نا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: وحدثت أن قريشاً وجدت في الركن، أو في بعض المقام كتاباً بالسريانية لم
يدورا ما هو حتى قرأه عليهم رجل من يهود: أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات
والأرض وصنعت الشمس والقمر، وحففتهما بسبعة أملاحك حنفاء لا يزولون حتى تزول
أخاشبها، مبارك لأهلها في الماء واللبن.
وحدثت أنهم وجدوا في المقام
كتاباً فيه: مكة الحرام يأتيها رزقها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
نا أحمد: يونس عن زكريا بن
أبي زائدة عن عامر الشعبي قال: حدثني من قرأ في أسفل المقام أو في تختجة في سقف
البيت:؛ أنا الله ذو بكة، بنيته على وجه سبعة أملاك حنفاء، باركت لأهله في اللحك،
والماء، وجعلت رزقهم من ثلاثة سبل، ولا يستحل حرمتها أول من أهلها.
نا أحمد: نا يونس عن المنذر
بن ثعلبة عن سعيد بن حرب قال: شهدت عبد الله بن الزبير وهو يقلع القواعد التي أسس
إبراهيم صلى الله عليه وسلم لبناء البيت فأتوا تربة صفراء عند الحطيم، فقال ابن
الزبير: هذا قبر اسماعيل عليه السلام فواراه.
نا أحمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: ثم جمعت القبائل من قريش لبنائها كل قبيل تجمع على جدتها ثم بنوا حتى
بلغ البناء موضع الركن فاختصموا في رفع الركن، كل قبيلة تريد أن ترفعه دون الأخرى،
فقالت كل قبيلة نحن نرفعه حتى تحازبوا أو تحالفوا، وأعدوا القتال، فقربت بنو عبد
الدار جفنة فملؤوها دماً، ثم تحالفوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت، فأدخلوا
أيديهم في تلك الجفنة فغمسوها في الدم، فقال في ذلك عكرمة بن عامر بن هاشم 25 بن
عبد مناف بن عبد الدار:
والله لا نأتي الذي قد أرتم ...
ونحن جميع او نخضب بالدم
ونحن ولاة البيت لا تنكرونه ...
فكيف على علم البرية نظلم
لنبغي به الحمد الذي هو نافع
... ونخشى عقاب الله في كل محرم
فكيف ترومونا وعز قناتنا ...
له مكسر صلب على كل معلم
فهيهات أنى يقرب الركن سالم ...
ونحن جميع عنده حين يقسم
فإما تخلونا وبيت حجابنا ...
وإما تنوؤا ذلك الركن بالحرم
فأجابه وهب بن عبد مناف:
أبلغ قريشاً إذا ما جئت
أكرمها ... أنا أبيتا فلا نؤتيكم غلبا
إنا أبينا إلي الغصب ظاهرة ...
إنا وجدك لا نؤتيكم سلبا
نحن الكرام فلا حي يقاربنا ...
نحن الملوك ونحن الأكرمون أبا
وقد أرى محدثاً في حلفنا
ظهراً ... كما ترى في حجاب الملك محتجبا
أبا لنا عزنا ماذا أراد بنا ...
قوم أرادوا بنا في حلفهم عجبا
قوم أرادوا بنا خسفاً لنقبله
... كلا وربك لا نؤتيهم غضبا
حدثنا احمد: نا يونس عن ابن
اسحق قال: فمكثت قريش اربع ليال، أو خمساً، بعضهم من بعض، ثم أنهم اجتمعوا في
المسجد فتشاوروا، وتناصفوا، فزعم بعض أهل العلم والرواية أن أبا امية، وكان
كبيراً، وسيد قريش كلها، قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من
يدخل عليكم من باب المسجد، فلما توافقوا على ذلك، ورضوا به، دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم، رأوا قالوا: هذا الأمين قد رضينا بما قضى بيننا، فلما انتهى إليهم
أخبروه الخبر، فقال: هلموا ثواباً، أوه به، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
الركن فيه بيديه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب، ثم ارفعوا جميعاً،
فرفعوه حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ثم بنى
عليه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى في الجاهلية الأمين قبل أن يوحى
إليه.
===================
الكتاب : السيرة النبوية
المؤلف : محمد بن اسحاق
مصدر الكتاب : موقع الوراق
http://www.alwarraq.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]