اتَّجَهَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ
وَقَرَّرُوا أَنَّ الْبِدْعَةَ
كُلَّهَا ضَلالَةٌ ، سَوَاءٌ فِي الْعَادَاتِ أَوِ الْعِبَادَاتِ .
وَمِنَ الْقَائِلِينَ
بِهَذَا الإِمَامُ مَالِكٌ وَالشَّاطِبِيُّ وَالطُّرْطُوشِيُّ . وَمِنَ الْحَنَفِيَّةِ
: الإِمَامُ الشُّمُنِّيُّ ، وَالْعَيْنِيُّ . وَمِنَ الشَّافِعِيَّةِ : الْبَيْهَقِيُّ
، وَابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلانِيُّ ، وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ . وَمِنَ الْحَنَابِلَةِ
: ابْنُ رَجَبٍ ، وَابْنُ تَيْمِيَةَ [1]
وَأَوْضَحُ تَعْرِيفٍ
يُمَثِّلُ هَذَا الاتِّجَاهَ هُوَ تَعْرِيفُ الشَّاطِبِيِّ ، حَيْثُ عَرَّفَ الْبِدْعَةَ
بِتَعْرِيفَيْنِ :
الأَوَّلُ أَنَّهَا :
طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ ، تُضَاهِي الشَّرْعِيَّةَ ، يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ
عَلَيْهَا الْمُبَالَغَةُ فِي التَّعَبُّدِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ . وَهَذَا التَّعْرِيفُ
لَمْ يُدْخِلِ الْعَادَاتِ فِي الْبِدْعَةِ ، بَلْ خَصَّهَا بِالْعِبَادَاتِ ، بِخِلافِ
الاخْتِرَاعِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
.
الثَّانِي أَنَّهَا :
طَرِيقَةٌ فِي الدِّينِ مُخْتَرَعَةٌ تُضَاهِي الشَّرِيعَةَ يُقْصَدُ بِالسُّلُوكِ
عَلَيْهَا مَا يُقْصَدُ بِالطَّرِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ[2]
. وَبِهَذَا التَّعْرِيفِ تَدْخُلُ الْعَادَاتُ فِي الْبِدَعِ إِذَا ضَاهَتِ الطَّرِيقَةَ
الشَّرْعِيَّةَ ، كَالنَّاذِرِ لِلصِّيَامِ قَائِمًا لا يَقْعُدُ مُتَعَرِّضًا لِلشَّمْسِ
لا يَسْتَظِلُّ ، وَالاقْتِصَارِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ عَلَى صِنْفٍ دُونَ
صِنْفٍ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ [3]
وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ
بِذَمِّ الْبِدْعَةِ مُطْلَقًا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا
:
( أ
) أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ قَدْ كَمُلَتْ قَبْلَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا }[4]
فَلا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجِيءَ إِنْسَانٌ وَيَخْتَرِعَ فِيهَا شَيْئًا ؛ لأَنَّ الزِّيَادَةَ
عَلَيْهَا تُعْتَبَرُ اسْتِدْرَاكًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . وَتُوحِي
بِأَنَّ الشَّرِيعَةَ نَاقِصَةٌ ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ .
( ب
) وَرَدَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ تَذُمُّ الْمُبْتَدِعَةَ فِي الْجُمْلَةِ ، مِنْ ذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }[5]
( ج ) كُلُّ مَا وَرَدَ مِنْ أَحَادِيثَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِدْعَةِ جَاءَ بِذَمِّهَا
، مِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ : " وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ
، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ . فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّهَا
مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا . فَقَالَ : أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ
وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِوُلاةِ الأَمْرِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا ، فَإِنَّهُ
مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا ، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي
وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ ، تَمَسَّكُوا بِهَا ، وَعَضُّوا
عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ . فَإِنَّ كُلَّ
مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ " [6]
( د ) أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ ، مِنْ
هَذَا مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ : دَخَلْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
مَسْجِدًا ، وَقَدْ أُذِّنَ فِيهِ ، وَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُصَلِّيَ فِيهِ ، فَثَوَّبَ
الْمُؤَذِّنُ ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مِنَ الْمَسْجِدِ ، وَقَالَ :
" اخْرُجْ بِنَا مِنْ عِنْدِ هَذَا الْمُبْتَدِعِ " وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ.
[7]
[1] الاعتصام للشاطبي 1 / 18 ، 19 ط التجارية
، والاعتقاد على مذاهب السلف للبيهقي ص 114 ط دار العهد الجديد ، والحوادث والبدع للإمام
الطرطوشي ص 8 ط تونس ، واقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص 228 ، 278 ط المحمدية
، وجامع بيان العلوم والحكم ص 160 ط الهند ، وجواهر الإكليل 1 / 112 ط شقرون ، وعمدة
القاري 25 / 37 ط المنيرية ، وفتح الباري 5 / 156 ط الحلبي .
[3] التعريف الأول للشاطبي خص البدعة بالاختراع
في الدين ، بخلاف الاختراع في الدنيا فلا يسمى بدعة ، وبهذا القيد تنفصل العلوم الخادمة
للدين عن البدعة ، مثل علم النحو والصرف .
[6] حديث العرباض أخرجه ابن ماجه ( 1 / 16 ـ
ط الحلبي ) ، وأبو داود ( 5 / 16 ـ ط عزت عبيد دعاس ) ، والحاكم ( 1 / 96 ـ ط دائرة
المعارف العثمانية ) وصححه وافقه الذهبي .