اطلعت على فتوى فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر - باعتبار الفوائد البنكية من الربح الحلال

الدكتور فتحي لاشين
مستشار سابق بمحاكم الاستئناف بمصر - دكتوراة في الشريعة الإسلامية والقانون المدني
DMT D3EFC 3-inch Dia-Sharp® Sharpener, Credit Card Sized- Extra-Fine, Fine and Coarse Diamondاطلعت على فتوى فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر - باعتبار الفوائد البنكية من الربح الحلال، والتي تبناها مجلس المجمع الإسلامي بأغلبية أعضائه، ونشرت في صحيفة صوت الأزهر بتاريخ 6/12/2002، وهذا المجلس يعد إحدى هيئات المجمع وليس هو المجمع نفسه، كما جاء في عنوان الصحيفة، وهو نوع من التمويه على القارئ كنا نربأ بالصحيفة المعبرة عن رأي الجامع الأزهر أن تقع فيه
.
وبصرف النظر عن المخالفات الإجرائية العديدة التي شابت إصدار هذه الفتوى، والتي كانت محل تساؤل في مجلس الشعب، حسبما نشر في الصحف، وعن أن هذه الفتوى، ليست جديدة، بل هي تكرار لفتوى قديمة لفضيلة شيخ الأزهر سبق نشرها منذ سنوات، وتولى الرد عليها وبيان بطلانها من الناحية الشرعية المئات من علماء الأزهر، وأضعافهم من العلماء غير المصريين، والكثير من المجامع الفقهية على مستوى العالم الإسلامي كله.
وقد استندت الفتوى حسبما جاء فيها إلى ما يلي:
1. أن المتعاملين مع البنوك يقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلاً عنهم في استثمارها في معاملاته المشروعة، مقابل ربح يصرف لهم، ويحدد مقدمًا في مدد يتفق مع المتعاملين معه عليها.
2. أن هذه المعاملة تتم بتراضي الطرفين، ولم يرد نص في كتاب الله أو السنة النبوية يمنعها.
Extra Credit3. أن تحديد الأرباح مقدمًا يتم بمعرفة البنوك بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية والأوضاع الاقتصادية في المجتمع، ولظروف كل معاملة ونوعها ومتوسط أرباحها، وأن هذا التحديد قابل للزيادة والنقص، ونافع لصاحب المال والقائمين على البنوك.
ونوجز الرد على هذه الفتوى فيما يأتي:
ملاحظات عامة على فتوى شيخ الأزهر
1. من الواضح أن هذه الفتوى قاصرة على بيان حكم فوائد الإيداع، تأسيسًا على القول بأنها من قبيل المشاركة في الاستثمار الذي يدر ربحًا، وذلك دون أن يتطرق فضيلته إلى حكم فوائد الاقتراض من البنوك سواء كان لحاجة شخصية، أو لعمل يدر دخلاً. وقد سبق لفضيلته أن صرح بأن الاقتراض من البنوك محرم شرعًا، وأنه لا يحل إلا من أجل ضرورات الحياة، وشرح هذه الضرورات قائلاً: «إنه لا يصلح للإنسان أن يأخذ قرضًا من غيره سواء أكان هذا الغير بنكًا أو فردًا، إلا من أجل ضرورات الحياة، والمقصود شرعًا بضرورات الحياة أن الإنسان إذا لم يأخذ من غيره أموالاً تسد هذه الضروريات تتعرض حياته للخطر، أو للهلاك» (العالم اليوم) الأسبوعية عدد 25/10/1999.
ومؤدى تلك الفتوى حتمًا، وبطريق اللزوم العقلي: أن جميع قروض البنوك للآخرين سواء كانت استثمارية أو للحاجة الشخصية، لا تحل شرعًا إلا إذا كانت حياة الإنسان تتعرض للخطر أو الهلاك، وهذه الفتوى صحيحة شرعًا، وتتفق مع إجماع العلماء والمجامع الفقهية الذين يعتد برأيهم.
2. من الملاحظ أن فضيلة مفتي الجمهورية د. أحمد الطيب لم يؤيد فتوى شيخ الأزهر الحالية، ولكنه ساق إلى جانبها رأي المعارضين للفتوى أيضًا، وهم جمهور العلماء والمجامع العلمية في العالم الإسلامي، وترك لكل واحد أن يختار أي الرأيين الذي تطمئن له نفسه "صحيفة اللواء الإسلامي 26/12/2002".
3. والتعلل بتحديد الربح، رغم مخالفته لجمهور الفقهاء بآرائهم، مبني على أن التعامل البنكي مع المدخرين يقوم على الوكالة والمشاركة في الربح، وسنرى فيما بعد عدم صحة هذا الأساس، مما يجعل الكلام في تحديد الربح - أصلاً - غير ذي قيمة لبطلان الأساس الذي يقوم عليه، فيكون باطلاً تبعًا له.
4. المقرر شرعًا أن تراضي الأفراد لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً؛ لأن منهج التحريم في الإسلام، بل وفي غيره من القوانين الحديثة، يقوم على غلبة المضار الحقيقية للأفراد والمجتمعات، ولو كان يترتب على الفعل بعض الفوائد ضئيلة القيمة إزاء مضارها الغالبة؛ ولأن جميع المحرمات أيًا كانت لا تخلو من بعض المنافع لمرتكبها، وبالتالي فلا اعتبار لتراضي الأفراد متى قام دليل التحريم.
5. أن المعلوم شرعًا وأصولاً أن منهج الشريعة في مسائل المعاملات، ليس هو النص على الجزئيات والوقائع الفردية؛ لأنها دائمة التغيير والتطور، ولحدوث وقائع مستحدثة ومستجدة في كل وقت. إذًا فليست العبرة هي بالنص الصريح في الكتاب والسنة على تحريم الفوائد؛ لأنها عمليات مستحدثة، ولكن العبرة هي في بيان مدى توفر دليل التحريم وعلته فيها، وبعبارة أخرى هل تتوافر فيها ماهية وحقيقة الربا، فتكون حرامًا، أو ليست كذلك فتكون ربحًا مشروعًا.
6. أن الوصول إلى رأي شرعي صحيح في موضوع الفوائد يقتضي بيان حقيقة الربا المحرم شرعًا، وخصائصه وعلته، كما يقتضي العلم بحقيقة التعامل البنكي بالفوائد علمًا صحيحًا، يحيط بدقائق هذه المعاملات حسبما تتم في الواقع العملي لدى البنوك، وتوصيفها التوصيف الصحيح المتفق عليه لدى الاقتصاديين والقانونيين، وهم أهل الخبرة، ثم ننظر فيما إذا كانت تتوفر في الفوائد علة وخصائص الربا أم لا، وذلك عملاً بالقاعدة المتفق عليها لدى علماء أصول الفقه، والتي تقرر "أن الحكم على الشيء فرع من تصوره، وأنه يجب على المفتي والقاضي، إلى جانب العلم بالحكم الشرعي، أن يكون على علم بالواقع كي يعطيه نصيبه الصحيح من الحكم الشرعي، مع توفر الإخلاص والرغبة في الوصول إلى الحق".
7. مؤدى هذه القاعدة أنه لا يجوز أن يكون الهدف هو مجرد البحث عن مبررات شرعية عامة لنظام الفائدة البنكية، بحالته التي وفد إلينا بها من الغرب مع طلائع الاستعمار الغربي، وكل ما فيه من طيب، وخبيث، ومن حرام كثير، وحلال قليل، كما لا يجوز تفسير واقعه العملي تفسيرًا غير صحيح، يختلف عن مضمونه وجوهره الحقيقي، وهو ما دأب عليه بعض رجال المصارف ممن تربوا تربية علمانية، ولم يدرسوا أحكام الإسلام، وغلبت عليهم الرغبة في تحليل الواقع كما هو، وتهيبًا من تغيير نظام يألفونه، وقاموا على تطبيقه زمنًا طويلاً، إلى نظام جديد لم يألفوه، ولا يعرفون نتائجه.
وكل ذلك يؤدي بالضرورة إلى فساد الحكم الشرعي لفساد تصور الواقع العملي الذي ينطبق عليه الحكم الشرعي، وهو ما نعتقد أن فضيلة شيخ الأزهر قد وقع ضحية له؛ لأن هؤلاء هم الذين يبررون نظام الفائدة والعمليات البنكية بأنه من قبيل الوكالة في الاستثمار والمشاركة في المشروعات، وهو توصيف زائف وغير حقيقي، وهم أول من يعلم بعدم صحته ومخالفته للواقع العملي في البنوك، ولكافة الدراسات والأفكار الاقتصادية والمصرفية والقانونية التي تؤكد بأن عمليات البنوك تقوم على الائتمان أخذًا وعطاءً، بالاقتراض بنسبة فائدة والإقراض بنسبة فائدة أعلى، وكسب الفرق بين النسبتين، وهذا النظام هو السائد في النظام المصرفي للعالم كله، ومصر جزء منه.
وسنقوم بعون الله ببيان حقيقة الربا المحرم شرعًا، وعلته التي يدور معها وجودًا وعدمًا، وشرح حقيقة الفوائد البنكية في العرف المصرفي العملي ولدى الاقتصاديين والبنوك، ثم نقارن بين الأمرين، ونختم ببيان الموقف الآن من الفوائد:
الفارق بين الربا والربح الحلال
من النص القرآني المعجز في قوله تعالى: "الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة:275).
وتُستفاد عدة أحكام هي:
1. ليس المقصود بيان حل البيع؛ لأنه مستفاد من آيات أخرى وأحاديث نبوية كثيرة، ولكن المقصود تحديدًا بدلالة سياق الآية هو بيان حل الربح وهو الزيادة الناشئة عن البيع والمقابلة لزيادة الربا المحرم.
2. أنه يوجد تشابه ظاهري وشكلي بين الربا والربح، باعتبار أن كلاً منهما زيادة على رأس المال، وأن هذا التشابه الظاهري هو ما يتعلل به القائلون بحل الربا، وما زالت تلك الشبهة هي مصدر التحليل لدى كل القائلين بحل الفوائد البنكية حتى الآن.
3. أن كلاً من الربا والربح، رغم التشابه الظاهري بينهما، يختلف كل منهما عن الآخر لكونه ناشئًا عن معاملة مالية مختلفة، فإحداهما قابلة بطبيعتها وخصائصها لأن تنتج ربحًا حلالاً وهو البيع لخصوصيات فيه، ولم تفصح الآية الكريمة عن المعاملة الأخرى التي تنتج الربا الحرام، ولكنها تفيد قطعًا أنها معاملة تختلف في خصائصها وطبيعتها عن البيع.
أن هذه المعاملة الأخرى، التي تنتج الربا المحرم بينتها الآيات التالية للآية السابقة وهي الآيات: 278، 279، 280 من سورة البقرة في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ"، فهذه الآيات تربط بوضوح بين الربا والدين، وتبين أن الربا هو زيادة على رأس مال الدين، وأن الدائن ليس له سوى رأس ماله دون زيادة، وأن المدين إذا كان معسرًا تعين على الدائن إنظاره إلى ميسرة، بما يفيد أن المدين الغني لا يدفع ربًا أيضًا، ولكن يجب عليه السداد في الحال دون إنظار، وأن التصدق بمنفعة الدين على المدين خير من الزيادة الحرام، وهو يؤكد أن علة التحريم الوحيدة هي نشوء الزيادة الربوية عن دين.
ويتفق الفقهاء على أن الربا هو كل زيادة مشروطة على أصل الدين دون عوض يقابلها سوى الأجل.
ونخلص مما تقدم إلى النتائج التالية:
1. أن علة الربا وحقيقته، أنه زيادة متولدة من دين مقابل الأجل، وعلة حل الربح أنه زيادة متولدة عن بيع، وإذن فمناط التفرقة بينهما هو نوع وطبيعة المعاملة المالية الناشئة عنها الزيادة، فإن كانت بيعًا فهي ربح حلال، وإن كانت دينًا فهي ربًا حرام.
2. يتفق الفقهاء على أن ما يسري على البيع، يسري على التجارة من باب أولى؛ لأن التجارة ما هي إلا بيع متكرر، إلى جانب أنها حلال بنص القرآن الكريم، وما يسري على البيع والتجارة، يسري على المشاركة فيهما، والمشاركة في البيع والتجارة مشروعة بالأحاديث الصحيحة العديدة، وأحكام الكثير من أنواع الشركات مفصلة في كتب الفقه، وأجاز الإسلام نظام المشاركة بكل صورها كشركات الأموال وشركات الأشخاص وشركة المضاربة وغيرها.
3. أن أخص خصائص الدين التي جعلت أي زيادة عليه ربًا محرمًا، هي أن حق الدائن مضمون في ذمة المدين، وواجب الرد بمثله نوعًا وقدرًا، فهو معاوضة بين بدلين من جنس نقدي واحد متساوي المنافع، ولا ينتج شيئًا زائدًا، ولا مخاطرة فيه؛ لأنه مضمون في ذمة المدين، ولا يتحمل الدائن أي خسارة، ولا يشارك في الربح قل أو كثر؛ لأن زيادة الربا مضمونة كذلك مثل الدين سواء بسواء.
وأخص خصائص البيع التي نشأ عنها حل الربح، أنه معاوضة بين شيئين مختلفي المنافع والصفات، أحدهما نقد والآخر شيء، إما منقول أو عقار، والبائع يعرض ماله لمخاطر الكسب والخسارة، واحتمال كساد السلعة وفسادها، أو هلاكها كليًا أو جزئيًا، وإنفاقه بعض ماله وبذل جهده في جلبها وحفظها وعرضها للبيع، فالبائع يخاطر بأمواله في عمل منتج نافع ومفيد بالزراعة أو الصناعة، أو التجارة، أو المشاركة مع غيره في شيء من ذلك.
4. وتتميز المشاركة زيادة على ما تقدم من خصوصيات الربح الحلال بأن الشريك أمين على أموال شريكه، غير ضامن لها إلا بتعد أو بتقصير، ويتقاسم معه الربح والخسارة حسبما يتفقان عليه، ويندمج رأس مال الشريكين في سائر أعيان وأصول الشركة، خلافًا للدائن في كل هذه الأمور.
ضابط التفرقة بين الربا والربح
يستفاد من علة وخصائص كل من ربا الدين المحرم، وربح البيع الحلال، وجود ضابط لا يتخلف أبدًا للتفرقة بين الأمرين هو: "أن أي معاملة كانت، وأيًا كان مسماها، إذا نتج عنها وجود مبلغ مالي مؤجل السداد ثابت في ذمة الطرفين ومضمون الرد بمثله، كان هذا المال دينًا، وكان صاحبه دائنًا، والطرف الآخر مدينًا، وأي زيادة على هذا المال تعتبر ربًا محرمًا. أما إذا كانت المعاملة لا تتضمن وجود مبلغ مالي مؤجل السداد، وكان الطرف المسئول عن رد المال أمينًا على مال صاحبه غير ضامن له لو هلك أو خسر، وتقاسما معًا الربح قل أو كثر، كان صاحب المال شريكًا، وكانت العملية شركة مشروعة، وكانت الزيادة على رأس المال ربحًا حلالاً".
ومفهوم ذلك أن العبرة هي بتوفر خصائص وطبيعة المركز القانوني والشرعي لكل من طرفي العلاقة المالية في الواقع العملي من حيث كونها علاقة دائنية ومدينية أو علاقة مشاركة حقيقية.
حقيقة الفوائد البنكية وأصول التعامل المصرفي في الأموال
إن أهم العمليات الاقتصادية للبنوك هي عملية جمع الأموال من أصحابها، ثم إقراضها لأرباب المشروعات وأصحاب الحاجات الشخصية.
وهذه العملية في حقيقة العلوم المصرفية والاقتصادية والقانونية، وفي واقع التطبيق العملي القائم فعلاً منذ قيام البنوك حتى الآن، تتميز بالخصائص الآتية: يقول الاقتصاديون والمصرفيون: إن مهمة البنوك الأساسية، والتي تعد عصب الحياة الاقتصادية، هي الاتجار في الائتمان أخذًا وعطاءً. ويقولون: إن مفهوم الائتمان هو الإقراض إلى أجل، وسُمي بالائتمان؛ لأن أساسه الثقة، وأهم سلعة لعملية الائتمان هي النقود، وثمن النقود هو الفائدة، وتجسيدًا لهذا المفهوم يطلق على مقدار الفائدة: اصطلاح سعر الفائدة، أي السعر المحدد ثمنًا للنقود.
وتقطع الدراسات الاقتصادية والعملية أنه لا صلة إيجابية مباشرة إطلاقًا بين سعر الفائدة، وربح الدين، أو خسارته. وأن سعر الفائدة يتحدد نتيجة عوامل أخرى كثيرة غير الربح والخسارة أهمها حالات الرواج والكساد، وكمية العرض والطلب للنقود، وقوانين الدولة، والمصالح الشخصية لأصحاب المصارف والمؤسسات المالية والمضاربات في سوق الأوراق المالية، والسعر العالمي للفائدة.
وتتم عملية الاتجار في الائتمان على مرحلتين:
المرحلة الأولى: جمع الأموال من المدخرين بفائدة، وتسمى الإيداع أو الودائع، وهذه التسمية غير حقيقية؛ لأن هذه الأموال تسجل لدى البنك على أنها إيرادات دائنة، العميل فيها دائن والبنك فيها مدين، فهذه الإيرادات تدخل ذمة البنك المدينة، ويتملكها ملكية كاملة، ويستثمرها البنك لحساب نفسه، وربحها أو خسارتها له أو عليه وحده، وليس للعميل الدائن إلا رأس ماله وفائدته.
بل إن القوانين والأصول المصرفية لا تسمح للبنوك بأن تدخل شريكًا بالربح والخسارة في أي مشروعات إلا في نطاق محدود جدًا من رأس المال، وبشرط أن تكون عمليات مضمونة لا مخاطرة فيها كبعض العمليات العقارية.
ويوجد لدى البنك نظام خاص للودائع الحقيقية يتقاضى عنها أجرًا، ويتمثل في الخزائن الحديدية التي تؤجر لأي عميل ليودع فيها ما يشاء من الأشياء العينية عدا النقود.
وإذن فطبيعة هذه الودائع هي طبيعة القرض والدين الثابت في الذمة بكل خصائصه الشرعية والقانونية.
المرحلة الثانية: هي توزيع الأموال على المحتاجين من أصحاب الأعمال، أو المستهلكين لبعض السلع فقط، وتتم عن طريق الإقراض بفائدة أعلى.
وهي أيضًا عملية مداينة، البنك فيها دائن، وأصحاب الأعمال مدينون، وليس للبنك إلا رأس مال القرض وفائدته، سواء ربح صاحب المشروع أو خسر، ويكسب البنك الفرق بين فائدتي الإيداع والإقراض.
وتفيد ميزانيات البنوك أنه ما بين 70% إلى 80% على الأقل من أرباح البنوك تتم عن طريق عملية الإقراض للمحتاجين.
ويقوم نظام البنوك على أن سداد المدين لجزء من دينه، يخصم أولاً من الفوائد المتراكمة، وهو عادة لا يستطيع الوفاء بها كاملة، ويفاجأ المدين بعد عدد من السنين أنه أوفي للبنك بقيمة الدين كاملاً، ولكن الدين باق على حاله كاملاً، بالإضافة إلى جزء من الفوائد! ويؤول الأمر إلى مديونية دائمة تمتص عائد جهده، ولا فكاك له منها، وتؤدي بمشروعه إلى كارثة اقتصادية.
وتؤكد الدراسات الاقتصادية أن ثمة مضار رهيبة اقتصادية واجتماعية وسياسية لنظام الفائدة، وهذه الفائدة هي سمة النظام الاقتصادي العالمي الذي تشكل البنوك عموده الأساس، كما يسلمون بأن الفائدة ربا، غير أنها تخفيف للربا في أبسط مظاهره، وأنها أمر لا بد منه لإدارة السياسة المالية للدولة رغم تسليمهم بمضارها الهائلة.
بعض الاقتصاديين الغربيين، وعلى رأسهم الاقتصادي الكبير «كينز»، يرون أن الفائدة تعوق النمو الاقتصادي، وتعطل حركة الأموال، وأن التنمية لا تتحقق إلا إذا كان سعر الفائدة صفرًا أو ما يقرب منه، وهو ما يعني إلغاء الفائدة، وهو ما يحققه النظام الإسلامي المنزّل من رب العالمين.
لا وجود للوكالة ولا للربح في عمليات البنوك
نرى مما تقدم أنه لا توجد أي وكالة بين أصحاب الأموال والبنك، لأنهم دائنون للبنك بهذه الأموال، وليس لديهم أية نية لتوكيله عنهم، والبنك ليس وكيلاً، ولا يقصد ذلك، ولا يوجد أي عقد وكالة بينه وبين أصحاب الأموال، ولكنه مدين لهم بأموالهم وبفوائدها. وأيضًا فإن البنك لا يستثمر هذه الأموال لحسابهم، ولكن لحساب نفسه. فالوكالة هنا افتراض وهمي لا أساس له من الواقع.
كذلك فإن البنك لا يشارك أصحاب المشروعات في مشروعاتهم، ولكنه دائن لهم برأس مال القرض وفوائده، ولا علاقة للبنك بالمشروع، والبنك لكونه دائنًا يظل رأس ماله نقدًا حتى يسترده كما هو، أما الشريك فيندمج رأس ماله في المشروع، ويتحول إلى أصول عينية منقولة وعقارية، ولا يستردها نقدًا إلا عند تصفية المشروع أو بيع حصته لآخر.
وما يحصل عليه البنك من فوائد ليس ربحًا ولا علاقة له بالربح، ولكنه نسبة مئوية من قيمة الدين تتكرر وتتضاعف سنويًا أو شهريًا، كما حددها البنك نفسه، وهي واجبة السداد أولاً قبل الدين، سواء تم استخدام هذا الدين أو لم يتم، أسهم القرضُ في المشروع أو لم يسهم، فأين هو الربح وأين تحديده؟!
ومن ناحية ثالثة فإن فضيلة شيخ الأزهر نفسه يحرم فوائد القروض من البنك للآخرين، سواء لأصحاب المشروعات أو لأصحاب الحاجات، حسب المستفاد من فتواه الحالية، وإلا لنص على أنها حلال كفوائد الإيداع، وإذن فليس هناك استثمار مشروع، ولكنه استثمار "غير مشروع" بزيادة على أصل الدين، وتكون الفتوى مبنية على افتراضات وهمية لا وجود لها في الواقع العملي في البنوك، وفاقدة لأساسها الواقعي؛ لأن المركز القانوني والشرعي للبنك هو مركز الدائن أو المدين لا مركز الشريك أخذًا وعطاءً، ومن ثم تكون مجانبة للحق والصواب، ومخالفة للحكم الشرعي الذي نعتقده صحيحًا.
اختلاف الأساس الفكري والبناء التنظيمي التعاملي للربا والربح
1- إن رجال البنوك والمصارف، وعلماء الاقتصاد والقانون، وكافة الدراسات الاقتصادية، تؤكد وتسلم بتلك الحقيقة المرة الغائبة أو المغيبة عن فضيلة شيخ الأزهر، وهي أن عملية البنوك تقوم على الائتمان، أي الاقتراض والإقراض، وأن النظام المصرفي العالمي والنظام المصري جزء منه يقوم على أن الفائدة هي نوع من الربا القليل الذي لا ظلم فيه، ولا بد منه لإدارة النظام المصرفي والسياسات الاقتصادية كلها، وذلك انبثاقًا من النظرية اليهودية التي تقرر أن المال نامٍ حكمًا ودائمًا؛ لأن الإنسان يستطيع استخدامه والانتفاع به في جميع الأحوال فيستحق الدائن أجرًا طالما تنازل عن منافع ماله إلى الغير، في حين أن النظرية الإسلامية تقرر أن المال غير نام بنفسه، وإنما ينمو إذا اختلط بالعمل، فإذا اختلط بالعمل دخلته المخاطرة؛ لأن العمل البشري يخطئ ويصيب، ويربح ويخسر، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق المشاركة، وعملاً بقاعدة الغنم بالغرم.
2- إن ضابط التفرقة بين الربا المحرم والربح الحلال في النص القرآني المعجز، وقيام علة تحريمه على اختلاف طبيعة وعناصر المعاملة المالية التي ينشأ عنها كل منهما، لا يقتصر أثره على مجرد التحليل والتحريم، وإنما ينبثق عنه النظام الإسلامي الأصيل الذي يجمع بين شرعية التعامل وتنمية وتنشيط الاقتصاد؛ لأن الشريعة الإسلامية لم تحرم بابًا إلا وفتحت أبوابًا، وبدائل تغني الناس عن التعامل بالحرام، وأن النظام الاقتصادي الإسلامي يقرر العديد من الآليات والبدائل التي تحقق هذا الهدف دون اللجوء إلى نظام الفائدة.
3- يجمع الاقتصاديون على أن عملية تنمية المال واستثماره على الوجه الأكمل الذي يحقق أفضل النتائج لا بد أن تتم بالتعاون والتوازن بين عنصري الإنتاج وهما رأس المال والعمل، ولا يوجد في عالم الاقتصاد سوى نظامين اثنين لإدارة العلاقة بينهما:
الأول: أن يكون صاحب رأس المال دائنًا مقابل فائدة ثابتة، ولا يشارك في ربح ولا خسارة، ويكون العامل أو المستثمر مدينًا وضامنًا لسداد رأس المال وفائدته، وهذا النظام لا يحقق العدالة ولا التوازن بين عنصري التنمية الاقتصادية؛ لأنه يحابي رأس المال الذي يزيد بنسبة مئوية دائمًا على حساب العمل الذي يربح ويخسر، وله مضار فادحة اجتماعيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا، وهذا النظام هو ما يحرمه الإسلام باعتبار الفائدة البنكية ربًا.
والنظام الثاني: أن يكون صاحب رأس المال شريكًا للعامل أو المستثمر في الربح والخسارة، والمال أمانة في يد العامل، وليس دينًا في ذمته، فلا يضمنه إلا بتعدٍّ أو تقصير، وذلك هو نظام المشاركة بكل صورها: شركات أموال، أو شركات أشخاص، أو تمويل بالمشاركة، أو مشاركة كاملة أو ناقصة، أو مضاربة شرعية بأن يكون المال من جانب والعمل من جانب آخر، وذلك هو النظام الإسلامي.
وهذا النظام هو ما يحقق العدالة والتوازن بين عنصري رأس المال، والعمل، ولا يحابي أحدهما على الآخر، ويؤدي إلى التنمية المثلى، وهو ما يقرره الإسلام بإباحة الربح.
أما بيع الأجل أو البيع بالتقسيط فيمكن تنظيمه عن طريق عقد المرابحة الشرعي، وبعض المسائل يمكن تنظيمها بعقد الاصطناع أو عقد السلم وغيرهما.
4- وهكذا نرى أن تنظيم أمور المال والاقتصاد والتجارة والبنوك، على أساس مبدأ المشاركة في الربح وتحريم الفوائد البنكية، يترتب عليه تغيير كامل في الفكر الاقتصادي والتشريع والتنظيم العملي والواقعي لعالم المال والبنوك، وهو ما يحقق الاستقلال، وفك أواصر التبعية الفكرية والاقتصادية للغرب الاستعماري، ولذلك كان النظام الاقتصادي الإسلامي ميدان حرب ضروس من الغربيين وأتباعهم من العلمانيين وخصوم الإسلام.
5- إن النظام الإسلامي وجد طريقه إلى التطبيق بفاعلية وكفاءة، وقدرة على استخدام كافة وسائل الحداثة المتقدمة في البنوك الإسلامية، وشركات توظيف الأموال، وهي وإن كانت تشوبها بعض السلبيات، وكانت وما تزال قاصرة عن بلوغ الأهداف المثالية للنظام الإسلامي، فإن العيب لا يكمن في النظام ذاته، وإنما في سلوكيات القائمين على الإدارة، وعدم اعتراف الدولة بهما إلا في نطاق ضيق جدًا، وصدر القرار بإعدام شركات توظيف الأموال، دون أي مبالاة بالمآسي الرهيبة التي لحقت بالآلاف من صغار المدخرين، وضياع أموالهم بأيدي ذوي النفوذ وأصحاب المصالح، وكان يمكن تخليص هذه الشركات من سلبياتها الأساسية، وهي انعدام التنظيم والترشيد القانوني، وعدم الرقابة على هذه الشركات من سلبياتها سواء من ناحية الدولة، أو من ناحية أصحاب الأموال، رغم تكاثر أموال ضخمة بين أيديها، ومع ذلك فما وقع منها من تجاوزات يقع أكثر منها وأفدح في الجهاز المصرفي القائم على الفائدة، وما أخبار وفضائح مليارات الجنيهات المنهوبة والضائعة على الشعب، بخافية على أحد، دون أي لائمة توجه إلى هذا الجهاز؛ لأنها أنظمة علمانية غربية.
الإقراض للاستثمار في المشروعات التجارية والإنتاجية
إن الجمهور الأعظم من علماء المسلمين الآن، يسلم بأن الفوائد البنكية إيداعًا وإقراضًا للمشروعات الاستثمارية هي الربا المحرم، عدا نفر قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، منهم فضيلة شيخ الأزهر في بعض آرائه المنشورة من قبل، يقولون: إن التحريم قاصر على ربا القروض الشخصية التي يضطر إليها ذوو الحاجة، ولا يشمل الإقراض لأصحاب المشروعات التي تدر دخلاً، يدفعون منه فائدة القرض، وذلك بمقولة إن الفقهاء يعللون تحريم الربا بأنه ظلم للمحتاج، وأن العرب وقت نزول الإسلام ما كانوا يعرفون القروض الاستثمارية للمشروعات الإنتاجية.
وهذا الرأي غير سديد للأسباب الآتية:
1- لا يتفق هذا الرأي وحقيقة الربا في الإسلام باعتباره معصية مشتركة بين الدائن والمدين، ولأن للقرض منفعته التي يصيبها المدين لسد احتياجاته وتلبية مطالبه العيشية.
2- كل آيات الربا في القرآن جاءت مطلقة من كل قيد، عامة عن أي تخصيص، والمقرر فقهًا أن العبرة في الحكم بعموم اللفظ دون خصوص السبب، وليس في كتب الفقه الإسلامي على كثرتها وسعتها ما يفيد التمييز بين دَين ودَين على أساس جهة إنفاقه أو الغرض منه، وآيات سورة البقرة أوجبت رد رءوس الأموال دون زيادة الربا في قوله تعالى: "وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة: 279)، وأعقبها الله تعالى بقوله: "وإن كان ذو عسرة فنظِرة إلى ميسرة" (البقرة: 280)، وموجب ذلك أن ثمة مدينًا موسرًا يجب عليه رد رأس مال الدين دون إنظار، فليست علة التحريم هي الاحتياج بأي حال.
3- العبرة في التحريم بتوافر حقيقة الربا وعناصر توافره شرعًا المكونة لعلة تحريمه، وليس من بينها إعسار المدين أو أخذه القرض أو الدين لحاجة شخصية، والمقرر بلا خلاف أن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع، فتلك الحقيقة؛ حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة ركبت، وبأي لفظ عبر عنها.
4- خلافًا لما يقول هذا الرأي من عدم تعامل العرب بالقروض الاستثمارية وقت نزول الآيات، فإن الثابت من وقائع التعامل لدى العرب عند نزول القرآن أن القروض الاستثمارية بالربا كانت شائعة بينهم، بل كانت هي الميدان الأساسي للربا، وأن المرابين من اليهود وأغنياء المشركين كانوا يقرضون التجار بالربا بقصد الاستثمار في التجارة، ودليل ذلك ما يأتي:
أ- من المقرر تاريخيًا أن مكة كانت تعيش اقتصاديًا على رحلتي الشتاء والصيف، أولاهما إلى اليمن وجنوب الجزيرة، وثانيتهما إلى الشام، وكان يتم تمويل هذه الرحلات عن طريق القروض الربوية من اليهود الذين يقيمون بالطائف بعد طردهم من اليمن، ولم تكن لهم صنعة إلا الإقراض بالربا لهذا النشاط التجاري، وكان أغنياء قريش في مكة، ومنهم بعض المسلمين فيما بعد كالعباس بن عبد المطلب، وخالد بن الوليد، وعثمان بن عفان، يسهمون في هذا النشاط التجاري، وكان التجار يعتمدون في سداد الربا على الأرباح التي تدرها التجارة عليهم، أي كانوا يقومون بذات الدور الذي تقوم به البنوك الآن.
ب- يروي الطبري عن السدي في أسباب نزول قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين" (البقرة: 278)، أنها نزلت في العباس بن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة، كانا شريكين في الجاهلية، وكانا يسلفان في الربا إلى أناس من ثقيف وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا. كما يروى أيضًا أن بني عمرو بن عمير هؤلاء كانوا يسلفون بني المغيرة بالربا، فجاء الإسلام وله عليهم أموال كثيرة فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى الوالي عليهم عتّاب بن أُسيد فكتب عتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
وعن أبي جريج أن ثقيفًا قد صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع.
وصريح هذه النصوص أن العباس وشريكه كانا يقرضان بني عمرو بن عمير من مالهما المشترك، وفي الوقت ذاته كان هؤلاء الأخيرون يقرضون بني المغيرة، كما كانت ثقيف تقرض وتقترض بالربا.
ومؤدى ذلك أن إقراض الأموال في الجاهلية كان بقصد استثمارها في التجارة بالربا، وأن المقرضين كانوا يستغلون القرض إما في التجارة للربح، وسداد الربا من الربح، أو بإعادة إقراضه بالربا، بدلالة تبادل الإقراض والاقتراض، وأنه كان يتجمع لكل فريق من المقرضين والمقترضين على السواء أموال عظيمة من الربا، فلم يكن ربا الجاهلية قاصرًا على مجرد الإقراض للمحتاجين؛ لأن من يقترض للعوز والحاجة لا يقرض غيره، فضلاً عن أن يتجمع له مال عظيم من إقراض غيره.
أيضًا لم تكن لهم في ذلك الزمان احتياجات شخصية تقتضي الاقتراض بالربا إلا في حالات محدودة جدًا، إذ لم تظهر تلك الاحتياجات إلا نتيجة لمخترعات الحضارة الغربية الحديثة.
وهذا الربا الاستثماري هو ما عناه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقوله: "ألا إن ربا الجاهلية موضوع كله، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب"، ثم أكد نفس المعنى في خطبة الوداع بقوله: "ألا إن كل ربا موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله".
ولا يخفى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم بتكرار التأكيد بكلمة كل، ليشمل كل ربا أيًا كان مصدره، وأيًا ما كان مقداره.
ج- في بعض صور الربا التي رواها رجال الحديث ما يشير إلى أن طلب المقترض ليس شرطًا في عقد القرض، وأن الغرض من القرض هو الاستثمار في الربا، يقول ابن حجر المكي: "ربا النسيئة هو الذي كان مشهورًا في الجاهلية؛ لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل أن يأخذ منه كل شهر قدرًا معينًا، ورأس ماله باق بحاله، فإذا حل طالَبه برأسماله، فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل"، ومفهوم قوله «يدفع ماله لغيره» أن الدفع هنا مطلب لصاحب رأس المال في مقابل الربح الربوي الذي يحصل عليه كل شهر، ويبرز حاجة صاحب المال في الاستثمار، أكثر من حاجة المدفوع له إلى المال
5- لم يهمل رجال الفقه المضار العامة للربا عند كلامهم على حكمة تحريمه، واهتموا بظلم المحتاج؛ لأن المجتمع كان في زمنهم يقوم على تعاليم الإسلام، وكان ربا الدين منزويًا في حالات محدودة النطاق لذوي الحاجة من المعسرين، وكانت المبادلات تتم غالبًا عن طريق المقايضة، ولذا اهتموا بأحكام ربا البيوع اهتمامًا كبيرًا دون أحكام ربا الديون التي لم تكن في حاجة إلى بيان، فهي مسألة واقع وظروف، ولا تفيد حصر الربا في إقراض ذوي الحاجة دون سواهم.
6- وأخيرًا فالمعلوم أن فكرة التفرقة بين ربا الاستثمار وربا الاستهلاك هي فكرة نشأت أولاً بين الاقتصاديين الغربيين، وأول من قال بها هو كالفن، ثم وفدت إلى البلاد الإسلامية، وحاول أنصار الفائدة من المسلمين إلباس تلك الفكرة مظهرًا شرعيًا على غير الحقيقة.
الموقف الآن من الفوائد البنكية
- إن جميع رجال الفتوى بالأزهر الشريف وشيوخه بدءًا من فضيلة الشيخ بكري الصدفي شيخ الأزهر سنة 1907، حتى فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر السابق، عليهم جميعًا رحمة الله، وكذلك جميع فتاوى دار الإفتاء المصرية منذ إنشائها، هؤلاء جميعًا على رأس جمهور العلماء القائلين بحرمة فوائد البنوك إيداعًا وإقراضًا، أيًا كان سبب القرض، ولم يشذ عن رأي هؤلاء كلهم سوى النادر من العلماء، منهم فضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الحالي، الذي ذهب في فتواه الأخيرة إلى حرمة القرض الاستهلاكي متفقًا في ذلك مع جمهور الفقهاء، ثم ذهب إلى أن فوائد الإيداع والقرض الاستثماري تعتبر من قبيل الربح؛ مخالفًا الجمهور في ذلك.
بل إن فضيلته قبل هذه الفتوى الأخيرة كان قد أصدر أربع فتاوى وقت أن كان مفتيًا لجمهورية مصر العربية، صدرت في 15 يناير، 29 فبراير، 20 مارس سنة 1990، تؤكد كلها حرمة فوائد البنوك بكل أنواعها بما فيها فوائد شهادات الاستثمار.
- إن كافة المجامع العلمية والمؤتمرات والندوات التي عقدت على مستوى العالم الإسلامي في العقود الأربعة الأخيرة، قد انتهت إلى حرمة فوائد البنوك بكل أنواعها، ويكفينا في هذا المقام تلك الفتوى الجامعة التي أصدرها المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، والذي عقد في المحرم سنة 1385هـ/ مايو سنة 1965م، وهو هيئة رسمية تابعة للدولة المصرية، وكان مكونًا من 26 عالمًا على رأسهم شيخ الأزهر حينذاك، وحضره ممثلون عن 30 دولة إسلامية، بحيث وصل عدد أعضائه 58 عالمًا يعاونهم عدد كبير من الخبراء الاقتصاديين والقانونيين والباحثين.
وقد انتهى المؤتمر بالإجماع إلى تقرير ما يلي:
أ- الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
ب- كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون" (آل عمران:130).
ج- الإقراض بالربا المحرم لا تبيحه حاجة ولا ضرورة، والاقتراض بالربا محرم كذلك لا يرتفع إثمه، إلا إذا دعت إليه الضرورة، وكل امرئ متروك لدينه في تقديره ضرورته.
د- أعمال البنوك من الحسابات الجارية، وصرف الشيكات، وخطابات الاعتماد، والكمبيالات، التي يقوم عليها العمل بين التاجر والبنوك في الداخل، كل هذا من المعاملات المصرفية الجائزة، وما يؤخذ في نظير هذه الأعمال ليس من باب الربا.
هـ- الحسابات ذات الأجل، وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض بفائدة، كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة.
ولم يقتصر الأمر على مجمع البحوث الإسلامية بمصر، بل إن كافة المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات على مستوى العالم العربي والإسلامي قد أخذت بنفس هذه المبادئ.
ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:
- المؤتمر الأول للمصارف الإسلامية بدولة الإمارات العربية المتحدة 1399هـ مايو 1979م، وكذلك المؤتمر الثاني 1403هـ/ مارس 1983م، والمؤتمر الثالث صفر 1406هـ/ أكتوبر 1985م.
- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة في ربيع الآخر سنة 1407هـ/ 1986م.
- مجمع الفقه الإسلامي بجدة في صفر 1407هـ/ 1986م.
- جميع فتاوى إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
- تقرير اللجنة الباكستانية لتطبيق الشريعة الإسلامية.
- اللجنة العليا لتطبيق الشريعة الإسلامية بليبيا في جمادى الأولى 1393هـ/ يونيو 1973م.
- إيران في قانون المصرف اللاربوي 1983م.
ومن كل ما تقدم يتبين أن الجدل الذي ثار طويلاً حول مشكلات الفائدة والربا، قد انتهى بقول فصل من أكبر التجمعات لعلماء المسلمين في العصر الحديث، وتعد المبادئ التي قرروها اجتهادًا جماعيًا لا ترقى إلى نقضه الاجتهادات الفردية مها علا شأن أصحابها. ولم تعد قضية الفوائد البنكية، قضية تحليل أو تحريم؛ لأنها بلغت من الوضوح حدًا لا مجال معه لمتشكك بعد أن أخذت حظًا كبيرًا، وزمنًا طويلاً من البحث والتحري، والتمحيص الدقيق، وإنما أصبحت القضية هي تنظيم الاقتصاد القومي على غير أساس الربا، وأن يتضافر المسلمون جميعًا حاكمين ومحكومين، وخاصة ذوي العلم والمال منهم على تحقيق هذا الهدف الجليل، إذعانًا لحكم الله عز وجل، وإراحة لضمائر العباد، وإزالة للتناقض بين أنظمتنا وعقيدتنا.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل،،
اقرأ أيضا:
فوائد البنوك.. سجالات التحريم والإباحة
إباحة الربا.. السؤال الملغوم والفتوى المغلوطة
فوائد المصارف من الحرام المجمع عليه إلى الحلال
--------------------------------------------------------------------------------

Popular posts from this blog

Contoh Terjemah Akte Kelahiran dalam bahasa arab

Contoh Surat Keterangan Aktif belajar dalam Bahasa Arab

من أخطأ الطريق ضل، ولا ينال المقصود؛ قلّ أو جل