الضابط الرابع : منع الغرر
الضابط الرابع : منع الغرر :
الغرر في اللغة يطلق على معان منها : النقصان والخطر والتعرض للتهلكة والجهل .
وأما في الاصطلاح : فهو ما لا يعرف حصوله أو لا يعرف حقيقته ومقداره ، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وهذا الضابط باتفاق الأئمة وأنه لابد من منع الغرر في المعاملات ، ويدل لهذا حديث أبي هريرة أن النبي r " نهى عن بيع الغرر " كما في صحيح مسلم .
وكذلك أيضاًَ من الأدلة عليه ما ورد من النهي عن بيع حَبَل الحَبَلة والمراد به بيع ولد ولد الناقة ، وكذلك بيع المضامين والمراد بها ما في بطون النوق من الأجنة ، وكذلك بيع الملاقيح وهي ما في أصلاب الفحول ، فهذه كلها تدل لهذا الضابط وأنه يمنع الغرر في المعاملات .
وكذلك أيضاًَ النهي عن بيع الملامسة والمنابذة وبيع المعجوز عن تسليمه ، هذا كله يدل على هذا الضابط .
اشترط العلماء للغرر المنهي عنه شروطاًَ وهي :
1- أن يكون الغرر كثيراًَ غالباًَ على العقد ، وعليه إذا كان الغرر يسيراًَ فإنه لا يمنع من صحة المعاملة والإجماع قائم على ذلك .
ومثَّل العلماء لهذا بدخول الحمام للإغتسال فإنه فيه شيء من الغرر ، لأن الناس يختلفون في طول الإقامة وقصرها وفي استعمال الماء كثرة وقلة .
ومن ذلك أيضاًَ تأجير السيارة لمدة يوم أو يومين فالناس يختلفون في استعمالها قلة وكثرة وكيفية ...إلخ ، فهذا فيه شيء من الغرر لكنه معفو عنه شرعاًَ لما كان يسيراًَ .
2- ألا تدعو الحاجة إلى هذا الغرر حاجة عامة ، وقد ذكر الجويني وغيره قاعدة في ذلك وهي : " أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة " ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : والشارع لا يحرم ما يحتاج الناس إليه من البيع لأجل نوع من الغرر بل يبيح ما يحتاج إليه الناس من ذلك .
وقول العلماء : " الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة " لابد – إذا سلمت هذه القاعدة – من تحقق الحاجة وألا يكون هناك مخارج شرعية ، فلابد من ضبط ذلك بتحقق الحاجة وأنه لا مناص من الوقوع في مثل هذا ، فإذا عمَّت الحاجة فإنه كما ذكر الجويني وغيره من أهل العلم تنزل منزلة الضرورة .
ويدل لهذا حديث ابن عمر أن النبي r " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " فالنهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ؛ قالوا : هذه حاجة عامة ، فإنه يؤخذ من الحديث أنه إذا بدا الصلاح بحيث احْمرّ البُسْر أو اصفَرّ صح البيع ، مع أن بعض أجزاء هذه الثمار لم تخلق وفي هذا شيء من الغرر ، ومع ذلك أجازه الشارع لعموم الحاجة .
3- أن يمكن التحرز من الغرر بلا حرج ولا مشقة ، وهذا أيضاً بالإجماع فإن الغرر إذا لم يمكن التحرز منه إلا بوجود الحرج والمشقة فإنه معفو عنه .
ويمثِّل العلماء لذلك بأساسات الحيطان وما في بطون الحوامل ؛ فالإنسان يشتري البيت وهو لم يطَّلع على أساساته وقواعده وكيف تم بناؤها ..إلخ ، وكذلك يشتري الحيوان الحامل وهو لا يعرف ما في بطن هذا الحيوان هل هو ذكر أم أنثى أو هو متعدد أو غير متعدد وهل هو حي أو ميت ..إلخ ، فمثل هذا لا يمكن معرفته ولو أردنا أن نعرف مثل هذه الأشياء للزم من ذلك الحرج والمشقة .
وأيضاً من الأمثلة على ذلك ما تقدم في حديث ابن عمر أن النبي r رخَّص في شراء الثمار إذا بدا صلاحها مع أن آخر هذه الثمار غير معروف لأنه لم يخلق بعد ولا يعرف كيف يكون نضجها .
4- أن يكون الغرر المنهي عنه في عقود المعاوضات ، وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك واختاره شيخ الإسلام .
وخرج من عقود المعاوضات ما يتعلق بعقود التبرعات فإنها عند الإمام مالك وشيخ الإسلام ابن تيمية لا يشترط فيها السلامة من الغرر .
الجمهور لا يفرقون بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات ، فلابد من السلامة[1] والإجارة ونحو ذلك هذه يشترط فيه العلم والتحرير والسلامة من الغرر .
أيضاً يقولون : عقود التبرعات كالهبة والهدية والعطية والوقوف ونحوها في الجملة يقولون : يشترط فيها السلامة من الغرر .
والجمهور يستدلون بحديث أبي هريرة أن النبي r " نهى عن بيع الغرر " .
والمالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية يستدلون بحديث عبد الله بن عمرو في قصة الرجل صاحب كبة الشعر فإنه أخذها من المغنم واستوهبها من النبي r فقال النبي r :" أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك". أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما .
وعندنا الأصل في ذلك الصحة ، كما سلف أن الأصل في المعاملات سواء كانت عقود معاوضات أو عقود تبرعات الصحة .
وأما الاستدلال بحديث أبي هريرة أن النَّبيّ r نهى عن بيع الغرر فهذا فيه نظر ، فهناك فرق بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات ؛ عقود المعاوضات يدخل فيها الإنسان وهو يريد الكسب والتجارة فاشترط فيها من العلم والتحرير ما لا يشترط في عقد التبرعات ؛ لأن عقود التبرعات لا يريد الإنسان فيها الكسب وإنما يريد الإرفاق والإحسان .
وعلى هذا تترتب مسائل كثيرة يذكرها العلماء :
مثلاً : هبة المجهول : لو أن الإنسان وهب سيارة مجهولة أو ما في جيبه فقال : وهبت لك ما في جيبي من الدراهم ، فهل يشترط أن تكون الهبة معلومة أو لا يشترط ؟ نقول : لا يشترط أن تكون الهبة معلومة على الصحيح .
كذلك لو أنه وهب شيئاً له مسروقاً أو مغصوباً أو منتهباً فنقول : هذه هبة صحيحة ، وعند جمهور أهل العلم أنها ليست صحيحة لأنهم يلحقون عقود التبرعات بعقود المعاوضات وأنه لابد من القدرة على التسليم .
كذلك أيضاً لو وهب شيئاً ضائعاً له أو رقيقاً آبقاً أو نحو ذلك فالجمهور أن ذلك لا يصح وعند المالكية واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية أنه صحيح ، وبهذا نعرف أن عقود التبرعات أوسع من عقود المعاوضات ، فإنه لا يشترط في عقود التبرعات ما يشترط في عقود المعاوضات من العلم والتحرير …إلخ .
فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه الإمام مالك واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، مع أنه - كما ذكرت – هذا رأي الجمهور في الجملة فهم لا يطردون المسألة فتجد أنهم يفرقون بين باب الوصايا وبين باب الهبة والعطية ، فهم يجيزون الوصية المجهولة لكن لا يجيزون الهبة المجهولة ، وهذا مما يدل على ترجح ما ذهب إليه الإمام مالك رحمه الله وأنه من شروط الغرر المنهي عنه أن يكون في عقود المعاوضات ، أما عقود التبرعات فإن هذا ليس شرطاً منهياً عنه .